الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)} إبطال لدعوى قارة في نفوسهم اقتضاها قولهم: {نؤمن بما أنزل علينا} [البقرة: 91] الذي أرادوا به الاعتذار عن إعراضهم عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم بعذر أنهم متصلبون في التمسك بالتوراة لا يعدونها وأنهم بذلك استحقوا محبة الله إياهم وتكون الآخرة لهم فلما أبطلت دعوى إيمانهم بما أنزل عليهم بإلزامهم الكذب في دعواهم بسند ما أتاه سلفهم وهم جدودهم من الفظائع مع أنبيائهم والخروج عن أوامر التوراة بالإشراك بالله تعالى بعبادة العجل، عقب ذلك بإبطال ما في عقائدهم من أنهم أهل الانفراد برحمة الله ما داموا متمسكين بالتوراة وأن من خالفها لا يكون له حظ في الآخرة، وارتكب في إبطال اعتقادهم هذا طريقة الإحالة على ما عقدوا عليه اعتقادهم من الثقة بحسن المصير أو على شكهم في ذلك فإذا ثبت لديهم شكهم في ذلك علموا أن إيمانهم بالتوراة غير ثابت على حقه وذلك أشد ما يفت في أعضادهم ويسقط في أيديهم لأن ترقب الحظ الأخروي أهم ما يتعلق به المعتقد المتدين فإن تلك هي الحياة الدائمة والنعيم المقيم. وقد قيل: إن هذه الآية رد لدعوى أخرى صدرت من اليهود تدل على أنهم يجعلون الجنة خاصة بهم مثل قولهم نحن {أبناء الله وأحباؤه} [المائدة: 18] وقولهم {لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً} [البقرة: 111]، وإلى هذا مال القرطبي والبيضاوي، وعليه فيكون ذكر الرد عليهم بينا لمجرد المناسبة في رد معتقد لهم باطل أيضاً لا في خصوص الغرض المسوق فيه الآيات المتقدمة بناءً على أن الآيات لا يلزم أن تكون متناسبة تمام المناسبة، ونحن لا نساعد على ذلك فعلى هذا الوجه تكون هاته الآية هنا نزلت مع سوابقها للرد على أقوالهم المتفرقة المحكية في آيات أخرى وإنما اتصلت مع الآيات الراجعة إلى رد دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم للمناسبة بجمع رد جميع دعاويهم ولكن فيما ذكرناه غنية. وأيّاً ما كان فهذه الآية تحدت اليهود كما تحدى القرآن مشركي العرب بقوله: {فأتوا بسورة من مثله} [البقرة: 23]. وإنما فصلت هاته الجملة عما قبلها لاختلاف السياق لأن هذه الآية إلقاء حجة عليهم والآيات السابقة تفظيع لأحوالهم وإن كان في كل من ذلك احتجاج لكن الانتقال من أسلوب إلى أسلوب كان محسناً للفصل دون العطف لا سيما مع افتتاح الاحتجاج بقل. والكلام في {لكم} مشعر بأن المراد من الدار الآخرة نعيمها و{لكم} خبر {كانت} قدم للحصر بناء على اعتقادهم كتقديمه في قول الكميت يمدح هشاماً بن عبد الملك حين عفا عنه من قصيدة: لكم مسجداً الله المزوران والحصى *** لكم قبضة من بين أثري وأقترا و {عند الله} ظرف متعلق بكانت والعندية عندية تشريف وادخار أي مدخرة لكم عند الله وفي ذلك إيذان بأن الدار الآخرة مراد بها الجنة. وانتصب {خالصة} على الحال من اسم (كان) ولا وجه لتوقف بعض النحاة في مجيء الحال من اسم (كان). ومعنى الخالصة السالمة من مشاركة غيركم لكم فيها فهو يؤول إلى معنى خاصة بكم. وقوله: {من دون الناس} دون في الأصل ظرف للمكان الأقرب من مكان آخر غير متصرف وهو مجاز في المفارقة فلذلك تدل على تخالف الأوصاف أو الأحوال، تقول هذا لك دون زيد أي لاحق لزيد فيه فقوله: {من دون الناس} توكيد لمعنى الاختصاص المستفاد من تقديم الخبر ومن قوله: {خالصة} لدفع احتمال أن يكون المراد من الخلوص الصفاء من المشارك في درجاتهم مع كونه له حظ من النعيم. والمراد من الناس جميع الناس فاللام فيه للاستغراق لأنهم قالوا: {لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً} [البقرة: 111]. وقوله: {فتمنوا الموت} جواب الشرط ووجه الملازمة بين الشرط وهو أن الدار الآخرة لهم وجزائه وهو تمني الموت أن الدار الآخرة لا يخلص أحد إليها إلا بالروح حين تفارق جسده ومفارقة الروح الجسد هو الموت فإذا كان الموت هو سبب مصيرهم إلى الخيرات كان الشأن أن يتمنوا حلوله كما كان شأن أصحاب النبيء صلى الله عليه وسلم كما قال عمير بن الحمام رضي الله عنه: جرياً إلى الله بغير زاد *** إلا التقى وعملَ المعاد وارتجز جعفر بن أبي طالب يوم غزوة مؤتة حين اقتحم على المشركين بقوله: يا حبذا الجنةُ واقترابُها *** طيبة وبارد شرابها وقال عبد الله بن رواحة عند خروجه إلى غزوة مؤتة ودعا المسلمون له ولمن معه أن يردهم الله سالمين: لكني أسأل الرحمان مغفرةً *** وضربةً ذات فرغ تقذف الزبدا أو طعنةً من يدي حران مُجهِزة *** بحربة تُنفِذُ الأحشاءَ والكبدا حتى يقولوا إذا مروا على جدثي *** أرشدك الله من غاز وقد رشدا وجملة {ولن يتمنوه أبداً} إلى آخره معترضة بين جملة {قل إن كانت لكم الدار الآخرة} وبين جملة {قل من كان عدواً لجبريل} [البقرة: 97] والكلام موجه إلى النبيء صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إعلاماً لهم ليزدادوا يقيناً وليحصل منه تحد لليهود إذ يسمعونه ويودون أن يخالفوه لئلا ينهض حجة على صدق المخبر به فيلزمهم أن الدار الآخرة ليست لهم. وقوله: {بما قدمت أيديهم} يشير إلى أنهم قد صاروا في عقيدة مختلطة متناقضة كشأن عقائد الجهلة المغرورين فهم يعتقدون أن الدار الآخرة لهم بما دل عليه قولهم: {نؤمن بما أنزل علينا} [البقرة: 91] وقولهم: {نحن أبناء الله وأحباؤه} [المائدة: 18] ثم يعترفون بأنهم اجترأوا على الله واكتسبوا السيئات حسبما سطر ذلك عليهم في التوراة وفي كتب أنبيائهم فيعتذرون بأن النار تمسهم أياماً معدودة ولذلك يخافون الموت فراراً من العذاب. والمراد بما قدمت أيديهم ما أتوه من المعاصي سواء كان باليد أم بغيرها بقرينة المقام، فقيل عبر باليد هنا عن الذات مجازاً كما في قوله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195] وكما عبر عن الذات بالعين في باب التوكيد لأن اليد أهم آلات العمل. وقيل: أريد بها الأيدي حقيقة لأن غالب جنايات الناس بها وهو كناية عن جميع الأعمال قاله الواحدي ولعل التكني بها دون غيرها لأن أجمع معاصيها وأفظعها كان باليد فالأجمع هو تحريف التوراة والأفظع هو قتل الأنبياء لأنهم بذلك حرموا الناس من هدي عظيم. وإسناد التقديم للأيدي على الوجه الأول حقيقة وعلى الوجه الثاني مجاز عقلي. وقوله: {والله عليم بالظالمين} خبر مستعمل في التهديد لأن القدير إذا علم بظلم الظالم لم يتأخر عن معاقبته فهذا كقول زهير: فمهما يكتم الله يعلم *** وقد عدت هذه الآية في دلائل نبوة النبيء صلى الله عليه وسلم لأنها نفت صدور تمني الموت مع حرصهم على أن يظهروا تكذيب هذه الآية. ولا يقال لعلهم تمنوا الموت بقلوبهم لأن التمني بالقلب لو وقع لنطقوا به بألسنتهم لقصد الإعلان بإبطال هذه الوصمة فسكوتهم يدل على عدم وقوعه وإن كان التمني موضعه القلب لأنه طلب قلبي إذ هو محبة حصول الشيء وتقدم في قوله: {إلا أماني} [البقرة: 78] أن الأمنية ما يقدر في القلب. وهذا بالنسبة إلى اليهود المخاطبين زمن النزول ظاهر إذ لم ينقل عن أحد منهم أنه تمنى الموت كما أخبرت الآية. وهي أيضاً من أعظم الدلائل عند أولئك اليهود على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فإنهم قد أيقن كل واحد منهم أنه لا يتمنى الموت وأيقن أن بقية قومه لا يتمنونه لأنه لو تمناه أحد لأعلن بذلك لعلمهم بحرص كل واحد منهم على إبطال حكم هذه الآية، ويفيد بذلك إعجازاً عاماً على تعاقب الأجيال كما أفاد عجز العرب عن المعارضة علم جميع الباحثين بأن القرآن معجز وأنه من عند الله. على أن الظاهر أن الآية تشمل اليهود الذين يأتون بعد يهود عصر النزول إذ لا يعرف أن يهودياً تمنى الموت إلى اليوم فهذا ارتقاء في دلائل النبوة. وجملة {والله عليم بالظالمين} في موضع الحال من ضمير الرفع في {يتمنوه} أي علم الله ما في نفوسهم فأخبر رسوله بأن يتحداهم وهذا زيادة في تسجيل امتناعهم من تمني الموت، والمراد بالظالمين اليهود فهو من وضع الظاهر موضع الضمير ليصفهم بالظلم.
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)} معطوف على قوله: {ولن يتمنوه أبداً} [البقرة: 95] للإشارة إلى أن عدم تمنيهم الموت ليس على الوجه المعتاد عند البشر من كراهة الموت ما دام المرء بعافية بل هم تجاوزوا ذلك إلى كونهم أحرص من سائر البشر على الحياة حتى المشركين الذين لا يرجون بعثاً ولا نشوراً ولا نعيماً فنعيمهم عندهم هو نعيم الدنيا وإلى أن تمنوا أن يعمروا أقصى أمد التعمير مع ما يعتري صاحب هذا العمر من سوء الحالة ورذالة العيش. فلما في هذه الجمل المعطوفة من التأكيد لمضمون الجملة المعطوف عليها أخرت عنها، ولما فيها من الزيادة في وصفهم بالأحرصية المتجاوزة الحد عطف عليه ولم يفصل لأنه لوكان لمجرد التأكيد لفصل كما يفصل التأكيد عن المؤكد. وقوله: {لتجدنهم} من الوجدان القلبي المتعدي إلى مفعولين. والمراد من الناس في الظاهر جميع الناس أي جميع البشر فهم أحرصهم على الحياة فإن الحرص على الحياة غريزية في الناس إلا أن الناس فيه متفاوتون قوة وكيفية وأسباباً قال أبو الطيب: أرى كلنا يهوَى الحياةَ بسعيه *** حريصاً عليها مستهاماً بها صَبّا فحُب الجباننِ النفسَ أوده التُّقَى *** وحبُّ الشجاععِ النفسَ أَوْرَدَهِ الحَربا ونكر (الحياة) قصداً للتنويع أي كيفما كانت تلك الحياة وتقول يهود تونس ما معناه «الحياة وكفى». وقوله: {ومن الذين أشركوا} عطف على (الناس) لأن المضاف إليه أفعل التفضيل تقدر معه من التفضيلية لا محالة فإذا عطف عليه جاز إظهارها ويتعين الإظهار إذا كان المفضل من غير نوع المفضل عليه لأن الإضافة حينئذ تمتنع كما هنا فإن اليهود من الناس وليسوا من الذين أشركوا. وعند سيبويه أن إضافته على تقدير اللام فيكون قوله: {ومن الذين أشركوا} على قوله عطفاً بالحمل على المعنى أو بتقدير معطوف محذوف تقديره أحرص هو متعلق من {الذين أشركوا} وإليه مال في «الكشاف». وقوله: {يود أحدهم} بيان لأحرصيتهم على الحياة وتحقيق لعموم النوعية في الحياة المنكرة لدفع توهم أن الحرص لا يبلغ بهم مبلغ الطمع في الحياة البالغة لمدة ألف سنة فإنها مع تعذرها لو تمت لهم كانت حياة خسف وأرذل عيش يظن بهم أن لا يبلغ حبهم الحياة إلى تمنيها، وقد قال الحريري: والموت خير للفتى *** من عيشهِ عَيْشَ البهيمة فجيء بهاته الجملة لتحقيق أن ذلك الحرص يشمل حتى هاته الحياة الذميمة ولما في هاته الجملة من البيان لمضمون الجملة قبلها فُصلت عنها. والود المحبة و(لو) للتمني وهو حكاية للفظ الذي يودون به والمجيء فيه بلفظ الغائب مراعاة للمعنى ويجوز أن تكون (لو) مصدرية والتقدير يود أحدهم تَعمير ألففِ سنة. وقوله: {لو يعمر ألف سنة} بيان ليود أي يود ودًّا بيانه لو يعمر ألف سنة، وأصل (لو) أنه حرف شرط للماضي أو للمستقبل فكان أصل موقعه مع فعل يود ونحوه أنه جملة مبينة لجملة {يود} على طريقة الإيجاز والتقدير في مثل هذا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة لَما سَئِم أو لما كَرِهَ فلما كان مضمون شرط (لو) ومضمون مفعول {يود} واحداً استغنوا بفعل الشرط عن مفعول الفعل فحذفوا المفعول ونزل حرف الشرط مع فعله منزلة المفعول فلذلك صار الحرف مع جملة الشرط في قوة المفعول فاكتسب الاسمية في المعنى فصار فعل الشرط مؤولاً بالمصدر المأخوذ منه ولذلك صار حرف (لو) بمنزلة أَن المصدرية نظراً لكون الفعل الذي بعدها صار مؤولاً بمصدر فصارت جملة الشرط مستعملة في معنى المصدر استعمالاً غلَب على (لو) الواقعة بعد فعل {يود} وقد يلحق به ما كان في معناه من الأفعال الدالة على المحبة والرغبة. هذا تحقيق استعمال لو في مثل هذا الجاري على قول المُحَققّين من النحاة ولغلبة هذا الاستعمال وشيوع هذا الحذف ذهب بعض النحاة إلى أن (لو) تستعمل حرفاً مصدرياً وأثبتوا لها من مواقع ذلك موقعها بعد {يود} ونحوه وهو قول الفراء وأبي علي الفارسي والتبريزي والعكبري وابن مالك فيقولون: لا حذف ويجعلون (لو) حرفاً لمجرد السبك بمنزلة أن المصدرية والفعل مسبوكاً بمصدر والتقدير يود أحدهم التعمير وهذا القول أضعف تحقيقاً وأسهل تقديراً. وقوله: {وما هو بمزحزحه} يجوز أن يكون الضمير لأحدهم ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً يفسره المصدر بعده على حد قول زهير: وما الحربُ إلا ما علمتم وذتُمُ *** وما هو عنها بالحديث المرجَّم ولم يجعل ضمير شأن لدخول النفي عليه كالذي في البيت لكنه قريب من ضمير الشأن لأن المقصود منه الاهتمام بالخبر ولأن ما بعده في صورة الجملة، وقيل: هو عائد على التعمير المستفاد من {لو يعمر ألف سنة}. وقوله: {أن يعمر} بدل منه وهو بعيد. والمزحزح المُبعد. وقوله: {والله بصير بما يعلمون} البصير هنا بمعنى العليم كما في قول علقمة الفحل: فإن تسألوني بالنساء فإنني *** بَصِيرٌ بأدواء النساء طبيبُ وهو خبر مستعمل في التهديد والتوبيخ لأن القدير إذا علم بما يجترحه الذي يعصيه وأعلمه بأنه علم منه ذلك علم أن العقاب نازل به لا محال ومنه قول زهير: فلا تكتمُنَّ اللَّهَ ما في نفوسكم *** ليخفى فمهما يُكتم اللَّهُ يَعلم يؤخَّرْ فيوضَعْ في كتاب فيُدَّخرْ *** ليوم الحساب أو يعَجَّلْ فينقم فجعل قوله: يَعْلم بمعنى العلم الراجع للتهديد بدليل إبداله منه قوله يؤخر، البيت وقريب من هذا قول النابغة في النعمان: علمتُك ترعاني بعين بصيرةٍ *** وتبعث حُرَّاساً عليَّ وناظرا (97، 98) {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَن كَانَ عَدُوًّا لّلَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال فَإِنَّ الله عَدُوٌّ للكافرين}. موقع هاته الجملة موقع الجمل قبلها من قوله: {قل فلم تقتلون أنبياء الله} [البقرة: 91]. وقوله: {قل بئسما يأمركم} [البقرة: 93]. وقوله: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة} [البقرة: 94]. فإن الجميع للرد على ما تضمنه قولهم {نؤمن بما أنزل علينا} [البقرة: 91] لأنهم أظهروا به عذراً عن الإعراض عن الدعوة المحمدية وهو عذر كاذب ستروا به السبب في الواقع وهو الحسد على نزول القرآن على رجل من غيرهم فجاءت هاته المجادلات المصدرة بقل لإبطال معذرتهم وفضح مقصدهم. فأبطل أولاً ما تضمنه قولهم: {نؤمن بما أنزل علينا} من أنهم إنما يقبلون ما أنزل على رسلهم بأنهم قد قابلوا رسلهم أيضاً بالتكذيب والأذى والمعصية وذلك بقوله: {قل فلم تقتلون} وقوله: {قل بئسما} إلخ. وأبطل ثانياً ما تضمنه من أنهم شديدو التمسك بما أنزل عليهم حريصون على العمل به متباعدون عن البعد عنه لقصد النجاة في الآخرة بقوله: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة}. وأبطل ثالثاً أن يكون ذلك العذر هو الصارفَ لهم عن الإيمان مع إثبات أن الصارف لهم هو الحسد بقوله هنا: {قل من كان عدواً لجبريل} إلخ. ويؤيد هذا الارتباط وقوع الضمير في قوله نَزَّله عائداً على {ما أنزل الله} في الآية المجابة بهاته الإبطالات، ولذلك فصلت هذه كما فصلت أخواتها ولأنها لا علاقة لها بالجمل القريبة منها فتعطف عليها فجاءت لذلك متسأنفة. والعدو المبغض وهو مشتق من عَدَا عليه يعدو بمعنى وثب، لأن المبغض يثب على المبغوض لينتقم منه ووزنه فَعول. وجبريل اسم عبراني للمَلَك المرسل من الله تعالى بالوحي لرُسله مركب من كلمتين. وفيه لغات أشهرها جِبْرِيل كقِطمير وهي لغة أهل الحجاز وبها قرأ الجمهور. وجَبْريل بفتح الجيم وكسر الراء وقع في قراءة ابن كثير وهذا وزن فَعْليل لا يوجد له مثال في كلام العرب قاله الفراء والنحاس، وجَبْرَئِيل بفتح الجيم أيضاً وفتح الراء وبين الراء والياء همزة مكسورة وهي لغة تميم وقيس وبعضضِ أهل نجد وقرأ بها حمزة والكسائي. وجَبْرَئِل بفتح الجيم والراء بينها وبين اللام همزة مكسورة قرأ بها أبو بكر عن عاصم وفيه لغات أخرى قُرِئ بها في الشواذ. وهو اسم مركب من كلمتين كلمة جبر وكلمة إِيل. فأما كلمة جبر فمعناه عند الجمهور نقلاً عن العبرانية أنها بمعنى عبد والتحقيق أنها في العبرانية بمعنى القُوة. وأما كلمة إِيل فهي عند الجمهور اسم من أسماء الله تعالى. وذهب أبو علي الفارسي إلى عكس قول الجمهور فزعم أن جبر اسم الله تعالى وإِيل العبد وهو مخالف لما في اللغة العبرانية عند العارفين بها. وقد قفا أبوالعلاء المعري رأي أبي علي الفارسي في صدر رسالته التي خاطب بها علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح وهي المعروفة «برسالة الغُفران» فقال: «قَدْ علم الجَبْر الذي نسب إليه جبريل وهو في كل الخيرات سبيل أنَّ في مسكني حَمَاطَة» إلخ. أي قد علم الله الذي نُسب جبريل إلى اسمه أي اسمه جبر يريد بذلك القَسَم وهذا إغراب منه وتنبيه على تباصره باللغة. وعدواة اليهود لجبريل نشأت من وقت نزوله بالقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: لأنه ينزل على الأمم التي كذبت رسلها بالعذاب والوعيد، نقله القرطبي عن حديث خرجه الترمذي. وقوله: {من كان عدواً لجبريل} شرط عام مراد به خاص وهم اليهود. قصد الإتيان بالشمول ليعلموا أن الله لا يعبأ بهم ولا بغيرهم ممن يعادي جبريل إن كان له معاد آخر. وقد عرف اليهود في المدينة بأنهم أعداء جبريل ففي البخاري عن أنس بن مالك قال: «سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله وهو في أرض يخترف فأتى النبيء فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيء «فما أول أشراط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال رسول الله أخبرني بهن جبريل آنفاً قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة فإنهم أبغضوه لأنه يجيء بما فيه شدة وبالأمر بالقتال» الحديث وفي سفر دانيال من كتبهم في الإصحاحين الثامن والتاسع ذكروا أن جبريل عبر لدانيال رؤيا رآها وأنذره بخراب أورشليم. وذكر المفسرون أسباباً أخرى لبغضهم جبريل. ومن عجيب تهافت اعتقادهم أنهم يثبتون أنه ملك مرسل من الله ويبغضونه وهذا من أحط دركات الانحطاط في العقل والعقيدة ولا شك أن اضطراب العقيدة من أكبر مظاهر انحطاط الأمة لأنه ينبئ عن تظاهر آرائهم على الخطأ والأوهام. وقوله: {فإنه نزله على قلبك بإذن الله. الضمير المنصوب ب (نزله) عائد للقرآن إما لأنه تقدم في قوله: {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله} [البقرة: 91] وإما لأن الفعل لا يصلح إلا له هنا على حد {حتى توارت بالحجاب} [ص: 32] {فلولا إذا بلغت الحلقوم} [الواقعة: 83]. وهذه الجملة قائمة مقام جواب الشرط لظهور أن المراد أن لا موجب لعداوته لأنه واسطة أذنه الله بالنزول بالقرآن فهم بمعاداته إنما يعادون الله تعالى فالتقدير من كان عدواً لجبريل فلا يعاده وليعاد الله تعالى. وهذا الوجه أحسن مما ذكروه وأسعد بقوله تعالى {بإذن الله} وأظهر ارتباطاً بقوله بعد {من كان عدواً لله وملائكته} كما ستعرفونه ويجوز أن يكون التقدير فإنه قدنزله عليك سواء أحبوه أم عادوه فيكون في معنى الإغاظة من باب {قل موتوا بغيظكم} [آل عمران: 119]، كقول الربيع بن زياد: من كان مسروراً بمقتل مالك *** فليأتتِ ساحَتنا بوجه نهار يجد النساءَ حواسراً يندبنه *** بالليل قبل تبلج الإسفار أي فلا يسر بمقتله فإنا قد قتلنا قاتله قبل طلوع الصباح فإن قاتله من أولياء من كان مسروراً بمقتله. ويجوز أن يكون المراد فإنه نزل به من عند الله مصدقاً لكتابهم وفيه هدى وبشرى، وهذه حالة تقتضي محبة من جاء به فمن حمقهم ومكابرتهم عداوتهم لمن جاء به فالتقدير فقد خلع ربقة العقل أو حلية الإنصاف. والإتيان بحرف التوكيد في قوله: {فإنه نزله} لأنهم منكرون ذلك. والقلب هنا بمعنى النفس وما به الحفظ والفهم، والعرب تطلق القلب على هذا الأمر المعنوي نحو: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} [ق: 37] كما يطلقونه أيضاً على العضو الباطني الصنوبري كما قال: كأنّ قلوب الطير رطباً ويابساً *** و{مصدقاً} حال من الضمير المنصوب في {أنزله} أي القرآن الذي هو سبب عداوة اليهود لجبريل أي أنزله مقارناً لحالة لا توجب عداوتهم إياه لأنه أنزله مصدقاً لما بين يديه من الكتب وذلك التوراة والإنجيل. والمصدق المخبر بصدق أحد. وأدخلت لام التقوية على مفعول {مصدقاً} للدلالة على تقوية ذلك التصديق أي هو تصديق ثابت محقق لا يشوبه شيء من التكذيب ولا التخطئة فإن القرآن نوه بالتوراة والإنجيل ووصف كلاً بأنه هدى ونور كما في سورة المائدة. وتصديق الرسل السالفين من أول دلائل صدق المصدق لأن الدجاجلة المدعين النبوات يأتون بتكذيب من قبلهم لأن ما جاءوا به من الهدى يخالف ضلالات الدجالين فلا يسعهم تصديقهم ولذا حذر الأنبياء السابقون من المتنبئين الكذبة كما جاء في مواضع من التوراة والأناجيل. والمراد بما بين يديه ما سبقه وهو كناية عن السبق لأن السابق يجيء قبل المسبوق ولما كان كناية عن السبق لم يناف طول المدة بين الكتب السابقة والقرآن ولأن اتصال العمل بها بين أممها إلى مجيء القرآن فجعل سبقهما مستمراً إلى وقت مجيء القرآن فكان سبقهما متصلاً. والهدى وصف للقرآن بالمصدر لقصد المبالغة في حصول الهدى به. والبشرى الإخبار بحصول أمر سار أو بترقب حصوله فالقرآن بشر المؤمنين بأنهم على هدى وكمال ورضى من الله تعالى وبشرهم بأن الله سيؤتيهم خير الدنيا وخير الآخرة. فقد حصل من الأوصاف الخمسة للقرآن وهي أنه منزل من عند الله بإذن الله، وأنه منزل على قلب الرسول، وأنه مصدق لما سبقه من الكتب، وأنه هاد أبلغ هدى، وأنه بشرى للمؤمنين، الثناء على القرآن بكرم الأصل وكرم المقر وكرم الفئة ومفيض الخير على أتباعه الأخيار خيراً عاجلاً وواعد لهم بعاقبة الخير. وهذه خصال الرجل الكريم محتده وبيته وقومه، السخي بالبذل الواعد به وهي خصال نظر إليها بيت زياد الأعجم: إنَّ المساحةَ والمروءةَ والنَّدى *** في قبة ضُربت على ابن الحَشْرج وقوله: {من كان عدواً لله} إلخ قد ظهر حسن موقعه بما علمتموه من وجه معنى {فإنه نزله على قلبك بإذن الله} أي لما كانت عداوتهم جبريل لأجل عداوتهم الرسول ورجعت بالأخرة إلى إلزامهم بعدواتهم الله المرسل، لأن سبب العداوة هو مجيئه بالرسالة تسنى أن سجل عليهم أنهم أعداء الله لأنه المرسل، وأعداء رسله لأنهم عادوا الرسول، وأعداء الملائكة لذلك، فقد صارت عداوتهم جبريل كالحد الوسط في القياس لا يلتفت إليه وإنما يلتفت للمقدمتين بالصغرى والكبرى فعداوتهم الله بمنزلة المقدمة الكبرى لأنها العلة في المعنى عند التأمل. وعداوتهم الرسول بمنزلة المقدمة الصغرى لأنها السبب الجزئي المثبت له فلا يرد أنه لا وجه لذكر عداوة الله تعالى هنا حتى يجاب بأن عداوة الملائكة والرسل عداوة لله على حد {من يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80] فإن ذلك بعيد. وقد أثبت لهم عدواة الملائكة والرسل مع أنهم إنما عادوا جبريل ومحمداً لأنهم لما عادوهما عادوا جبريل لأجل قيامه بما هو من خصائص جنسه الملكي وهو تبليغ أمر الله التكليفي فإن ذلك خصيصتهم قال تعالى: {وهم بأمره يعملون} [الأنبياء: 27] كانت عداوتهم إياه لأجل ذلك آيلة إلى عداوة جنس الملائكة إذ تلك طريق ليس جبريل فيها بأوحد وكذلك لما عادوا محمداً لأجل مجيئه بالرسالة لسبب خاص بذاته، كانت عداوتهم إياه آيلة إلى عداوة الوصف الذي هو قوام جنس الرسول فمن عادى واحداً كان حقيقاً بأن يعاديهم كلَّهم وإلا كان فعله تحكماً لا عذر له فيه. وخُص جبريل بالذكر هنا لزيادة الاهتمام بعقاب معاديه وليُذكَرَ معه ميكائيل ولعلهم عادَوهما معاً أو لأنهم زعموا أن جبريل رسول الخسف والعذاب وأن ميكائيل رسول الخصب والسلام وقالوا: نحن نحب ميكائيل فلما أريد إنذارهم بأن عداوتهم الملائكة تجر إليهم عداوة الله وأعيد ذكر جبريل للتنويه به وعطف عليه ميكائيل لئلا يتوهموا أن محبتهم ميكائيل تكسب المؤمنين عداوته. وفي ميكائيل لغات إحداها ميكائيل بهمزة بعد الألف وياء بعد الهمزة وبها قرأ الجمهور. الثانية ميكائيل بهمزة بعد الألف وبلا ياء بعد الهمزة وبها قرأ نافع. الثالثة ميكالَ بدون همز ولا ياء وبها قرأ أبو عمرو وحفص وهي لغة أهل الحجاز. وقوله: {فإن الله عدو للكافرين} جواب الشرط. والعدو مستعمل في معناه المجازي وهو ما يستلزمه من الانتقام والهلاك وأنه لا يفلته كما قال النابغة: فإنك كالليل الذي هو مدركي *** البيت. وقوله تعالى: {ووجد الله عنده فوفاه حسابه} [النور: 39] وما ظنك بمن عاداه الله. ولهذا ذكر اسم الجلالة بلفظه الظاهر ولم يقل فإني عدو أو فإنه عدو لما يشعر به الظاهر هنا من القدرة العظيمة على حد قول الخليفة: «أميرُ المؤمنين يأمر بكذا» حثًّا على الامتثال. والمراد بالكافرين جميع الكافرين وجيء بالعام ليكون دخولهم فيه كإثبات الحكم بالدليل، وليدل على أن الله عاداهم لكفرهم، وأن تلك العداوة كفر، ولتكون الجملة تذييلاً لما قبلها.
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)} عطف على قوله: {قل من كان عدواً لجبريل} [البقرة: 97] عطف القصة على القصة لذكر كفرهم بالقرآن فهومن أحوالهم. وهاته الجملة جواب لقسم محذوف فعطفها على {قل من كان عدواً} من عطف الإنشاء على الإنشاء وفيه زيادة إبطال لقولهم: {نؤمن بما أنزل علينا} [البقرة: 91]. وفي الانتقال إلى خطاب النبيء صلى الله عليه وسلم إقبال عليه وتسلية له عما لقي منهم وأن ما أنزل إليه لا يكذب به إلا من لا يؤبه بتكذيبه لكون هذا المنزل دلائل واضحة لا تقصر عن إقناعهم بأحقيتها ولكنهم يظهرون أنفسهم أنهم لم يوقنوا بحقيتها. واللام موطئة لقسم محذوف فهنا جملة قسم وجوابه حذف القسم لدلالة اللام عليه. وقوله: {وما يكفر بها إلا الفاسقون} عطف على {لقد أنزلنا} فهو جواب للقسم أيضاً. والفاسق هو الخارج عن شيء من فسقت التمرة كما تقدم في قوله تعالى: {وما يضل به إلا الفاسقين} [البقرة: 26] وقد شاع إطلاقه على الخارج عن طريق الخير لأن ذلك الوصف في التمرة وصف مذموم وقد شاع في القرآن وصف اليهود به، والمعنى ما يكفر بهاته الآيات إلا من كان الفسق شأنه ودأبه لأن ذلك بهيئه للكفر بمثل هذه الآيات، فالمراد بالفاسقين المتجاوزون الحد في الكفر المتمردون فيه. والإخبار وقع بالمضارع الدال على التجدد. والتوصيف وقع باسم الفاعل المعروف باللام. وقوله: {أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم} استفهام مستعمل في التوبيخ معطوف على جملة القسم لا على خصوص الجواب وقدمت الهمزة محافظة على صدارتها كما هو شأنها مع حروف العطف. والقول بأن الهمزة للاستفهام عن مقدر محذوف والواوعاطفة ما بعدها على المحذوف علمتم إبطاله عند قوله تعالى: {أفكلما جاءكم رسول}. وتقديم (كلما) تبع لتقديم حرف الاستفهام وقد تقدم توجيهه عند قوله تعالى: {أفكلما جاءكم رسول بمالا تهوى أنفسكم استكبرتم} [البقرة: 87]. والنبذ إلقاء الشيء من اليد وهو هنا استعارة لنقض العهد شبه إبطال العهد وعدم الوفاء به بطرح شيء كان ممسوكاً باليد كما سموا المحافظة على العهد والوفاء به تمسكاً قال كعب: ولا تمسك بالوعد الذي وعدت *** والمراد بالعهد عهد التوراة أي ما اشتملت عليه من أخذ العهد على بني إسرائيل بالعمل بما أمروا به أخذاً مكرراً حتى سميت التوراة بالعهد، وقد تكرر منهم نقض العهد مع أنبيائهم. ومن جملة العهد الذي أخذ عليهم أن يؤموا بالرسول المصدق للتوراة. وأسند النبذ إلى فريق إما باعتبار العصور التي نقضوا فيها العهودكما تؤذن به (كلما) أو احتراساً من شمول الذم للذين آمنوا منهم. وليس المراد أن ذلك الفريق قليل منهم فنبه على أنه أكثرهم بقوله: {بل أكثرهم لا يؤمنون} وهذا من أفانين البلاغة وهو أن يظهر المتكلم أنه يوفي حق خصمه في الجدال فلا ينسب له المذمة إلا بتدرج وتدبر قبل الإبطال. ولك أن تجعلها للانتقال من شيء إلى ما هو أقوى منه في ذلك الغرض لأن النبذ قد يكون بمعنى عدم العمل دون الكفر والأول أظهر. وقوله: {ولما جاءهم رسول} إلخ معطوف على قوله: {أو كلما} عطف القصة على القصة لغرابة هاته الشؤون. والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم لقوله: {مصدق لما معهم}. والنبذ طرح الشيء من اليد فهو يقتضي سبق الأخذ. وكتاب الله ظاهر في أنه المراد به القرآن لأنه الأتم في نسبته إلى الله. فالنبذ على هذا مراد به تركه بعد سماعه فنزل السماع منزلة الأخذ ونزل الكفر به بعد سماعه منزلة النبذ. وقيل: المراد بكتاب الله التوراة وأشار في «الكشاف» إلى ترجيحه بالتقديم لأن النبذ يقتضي سابقة أخذ المنبوذ وهم لم يتمسكوا بالقرآن، والأصل في إطلاق اللفظ المفرد أنه حقيقة لفظاً ومعنى وقيل المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى وفيه نظر لأن ذلك في إعادة الاسم المعرف باللام، أو تجعل النبذ تمثيلاً لحال قلة اكتراث المعرض بالشيء فليس مراداً به معناه. وقوله: {وراء ظهورهم} تمثيل للإعراض لأن من أعرض عن شيء تجاوزه فخلفه وراء ظهره وإضافة الوراء إلى الظهر لتأكيد بُعد المتروك بحيث لا يلقاه بعد ذلك فجعل للظهر وراء وإن كان هو هنا بمعنى الوراء. فالإضافة كالبيانية وبهذا يجاب عما نقله ابن عرفة عن الفقيه أبي العباس أحمد بن عبلون أنه كان يقول: مقتضى هذا أنهم طرحوا كتاب الله أمامهم لأن الذي وراء الظهر هو الوجه وكما أن الظهر خلف للوجه كذلك الوجه وراء للظهر قال ابن عرفة: وأجيب بأن المراد أي بذكر الظهر تأكيد لمعنى وراء كقولهم من وراءِ وراء. وقوله: {كأنهم لا يعلمون} تسجيل عليهم بأنهم عالمون بأن القرآن كتاب الله أو كأنهم لا يعلمون التوراة وما فيها من البشارة ببعثة الرسول من ولد إسماعيل.
{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)} {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سليمان وَمَا كَفَرَ سليمان ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر}. قوله: {واتبعوا} عطف على جملة الشرط وجوابه في قوله: {ولما جاءهم رسول من عند الله} [البقرة: 101] الآية بذكر خصلة لهم عجيبة وهي أخذهم بالأباطيل بعد ذكر خصلة أخرى وهي نبذهم للكتاب الحق، فذلك هو مناسبة عطف هذا الخبر على الذي قبله. فإن كان المراد بكتاب الله في قوله: {كتاب الله وراء ظهورهم} [البقرة: 101] القرآن فالمعنى أنهم لما جاءهم رسول الله مصدقاً لما معهم نبذوا كتابه بعلة أنهم متمسكون بالتوراة فلا يتبعون ما خالف أحكامها وقد اتبعواما تتلو الشياطين على ملك سليمان وهو مخالف للتوراة لأنها تنهى عن السحر والشرك فكما قيل لهم فيما مضى {أفتؤمنون ببعض الكتاب} [البقرة: 85] يقال لهم أفتؤمنون بالكتاب تارة وتكفرون به تارة أخرى. وإن كان المراد بكتاب الله التوراة فالمعنى لما جاءهم رسول الله نبذوا ما في التوراة من دلائل صدق هذا الرسول وهم مع ذلك قد نبذوها من قبل حين {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} مع أن ذلك مخالف لأحكام التوراة. قال القرطبي: قال ابن إسحاق لما ذكر النبيء صلى الله عليه وسلم سليمان في الأنبياء قالت اليهود: إن محمداً يزعم أن سليمان نبيء وما هو بنبيء ولكنه ساحر فنزلت هذه الآية. و {الشياطين} يحتمل أن يكونوا شياطين من الجن وهو الإطلاق المشهور، ويحتمل أن يراد به ناس تمردوا وكفروا وأتوا بالفظائع الخفية فأطلق عليهم الشياطين على وجه التشبيه كما في قوله تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبيء عدواً شياطين الإنس والجن} [الأنعام: 112] وقرينة ذلك قوله: {يعلمون الناس السحر} فإنه ظاهر في أنهم يدرسونه للناس وكذلك قوله بعده: {ولكن الشياطين كفروا} إذ هذا الاستدراك في الإخبار يدل على أنهم من الإنس لأن كفر الشياطين من الجن أمر مقرر لا يحتاج للإخبار عنه. وعن ابن إسحاق أيضاً أنه لما مات سليمان عليه السلام عمدت الشياطين فكتبوا أصنافاً من السحر وقالوا: من أحب أن يبلغ كذا وكذا فليفعل كذا لأصناف من السحر وختموه بخاتم يشبه نقش خاتم سليمان ونسبوه إليه ودفنوه وزعموا أن سليمان دفنه وأنهم يعلمون مدفنه ودلوا الناس على ذلك الموضع فأخرجوه فقالت اليهود: ما كان سليمان إلا ساحراً وما تم له الملك إلا بهذا. وقيل كان آصف ابن برخيا كاتب سليمان يكتب الحكمة بأمر سليمان ويدفن كتبه تحت كرسي سليمان لتجدها الأجيال فلما مات سليمان أغرت الشياطين الناس على إخراج تلك الكتب وزادوا في خلال سطورها سحراً وكفراً ونسبوا الجميع لسليمان فقالت اليهود: كفر سليمان. والمراد من الآية مع سبب نزولها إن نزلت عن سبب أن سليمان عليه السلام لما مات انقسمت مملكة إسرائيل بعده بقليل إلى مملكتين إحداهما مملكة يهوذا وملكها رحبعام ابن سليمان جعلوه ملكاً بعد أبيه وكانت بنو إسرائيل قد سئمت ملك سليمان لحمله إياهم على ما يخالف هواهم فجاءت أعيانهم وفي مقدمتهم يربعام بن نباط مولى سليمان ليكلموا رحبعام قائلين: إن أباك قاس علينا وأما أنت فخفف عنا من عبودية أبيك لنطيعك فأجابهم اذهبوا ثم ارجعوا إلي بعد ثلاثة أيام واستشار رحبعام أصحاب أبيه ووزراءه فأشاروا عليه بملاينة الأمة لتطيعه. واستشار أصحابه من الفتيان فأشاروا عليه أن يقول للأمة إن خنصري أغلظ من متن أبي فإذا كان أبي قد أدبكم بالسياط فأنا أؤدبكم بالعقارب فلما رجع إليه شيوخ بني إسرائيل في اليوم الثالث وأجابهم بما أشار به الأحداث خلعت بنو إسرائيل طاعته وملكوا عليهم يربعام ولم يبق على طاعة رحبعام إلا سبطا يهوذا وبنيامن واعتصم رحبعام بأورشليم وكل أمته لا تزيد على مائة وثمانين ألف محارب يعني رجالاً قادرين على حمل السلاح وانقسمت المملكة من يومئذ إلى مملكتين مملكة يهوذا وقاعدتها أورشليم، ومملكة إسرائيل ومقرها السامرة، وذلك سنة 975 قبل المسيح كما قدمناه عند الكلام على قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابين} [البقرة: 62] الآية ولا يخفى ما تكون عليه حالة أمة في هذا الانتقال فإن خصوم رحبعام لما سلبوا منه القوة المادية لم يغفلوا عما يعتضد به من القوة الأدبية وهي كونه ابن سليمان بن داود من بيت الملك والنبوءة والسمعة الحسنة فلم يأل أعداؤه جهدهم من إسقاط هاته القوة الأدبية وذلك بأن اجتمع مدبرو الأمر على أن يضعوا أكاذيب عن سليمان يبثونها في العامة ليقضوا بها وطرين أحدهما نسبة سليمان إلى السحر والكفر لتنقيص سمعة ابنه رحبعام كما صنع دعاة الدولة العباسية فيما وضعوه من الأخبار عن بني أمية والثاني تشجيع العامة الذين كانوا يستعظمون ملك سليمان وابنه على الخروج عن طاعة ابنه بأن سليمان ما تم له الملك إلا بتلك الأسحار والطلاسم وأنهم لما ظفروا بها فإنهم يستطيعون أن يؤسسوا ملكاً يماثل ملك سليمان كما صنع دعاة انقلاب الدول في تاريخ الإسلام من وضع أحاديث انتظار المهدي وكما يفعلونه من بث أخبار عن الصالحين تؤذن بقرب زوال الدولة. ولا يخفى ما تثيره هذه الأوهام في نفوس العامة من الجزم بنجاح السعي وجعلهم في مأمن من خيبة أعمالهم ولحاق التنكيل بهم فإذا قضى الوطر بذلك الخبر التصق أثره في الناس فيبقى ضر ضلاله بعد اجتناء ثماره. والاتباع في الأصل هوالمشي وراء الغير ويكون مجازاً في العمل بقول الغير وبرأيه وفي الاعتقاد باعتقاد الغير تقول اتبع مذهب مالك واتبع عقيدة الأشعري، والاتباع هنا مجاز لا محالة لوقوع مفعوله مما لا يصح اتباعه حقيقة. والتلاوة قراءة المكتوب والكتاب وعرض المحفوظ عن ظهر قلب وفعلها يتعدى بنفسه {يتلون عليكم آيات} [الزمر: 71] فتعديته بحرف الاستعلاء يدل على تضمنه معنى تكذب أي تتلو تلاوة كذب على ملك سليمان كما يقال تقوّل على فلان أي قال عليه ما لم يقله، وإنما فهم ذلك من حرف (على). والمراد بالملك هنا مدة الملك أو سبب الملك بقرينة أن التلاوة لا تتعلق بنفس الملك وحذف المضاف مع ما يدل على تعيين الوقت شائع في كلام العرب كقولهم وقع هذا في حياة رسول الله أو في خلافة عمر بن الخطاب وقول حميد بن ثور: وما هي إلا في إزار وعِلقة *** مُغارَ ابن همام على حي خثعما يريد أزمان مغار ابن همام. وكذلك حذف المضاف إذا أريد به الحوادث أو الأسباب كما تقول تكلم فلان على خلافة عُمر أو هذا كتاب في مُلك العباسيين وذلك أن الاسم إذا اشتهر بصفة أو قصة صح إطلاقه وإرادة تلك الصفة أو القصة بحيث لو ظهرت لكانت مضافة إلى الاسم، قال النابغة: وليللٍ أقاسيه بطئ الكواكب *** أراد متاعب ليل لأن الليل قد اشتهر عند أهل الغرام بأنه وقت الشوق والأرق. والشياطين قيل أريد بها شياطين الإنس أي المضللون وهو الظاهر. وقيل: أريدت شياطين الجن. وأل للجنس على الوجهين. وعندي أن المراد بالشياطين أهل الحيل والسحرة كما يقولون فلان من شياطين العَرب وقد عد من أولئك ناشب الأعور أحد رجال يوم الوقيط. وقوله: {تتلوا} جاء بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية على ما قاله الجماعة، أو هو مضارع على بابه على ما اخترناه من أن الشياطين هم أحبارهم فإنهم لم يزالوا يتلون ذلك فيكون المعنى أنهم اتبعوا اعتقدوا ما تلته الشياطين ولم تزل تتلوه. وسليمان هو النبيء سليمان بن داود بن يسي من سبط يهوذا ولد سنة 1032 اثنتين وثلاثين وألف قبل المسيح وتوفي في أورشليم سنة 975 خمس وسبعين وتسعمائة قبل المسيح وولي ملك إسرائيل سنة 1014 أربع عشرة وألف قبل المسيح بعد وفاة أبيه داود النبيء ملك إسرائيل، وعظم ملك بني إسرائيل في مدته وهو الذي أمر ببناء مسجد بيت المقدس وكان نبيئاً حكيماً شاعراً وجعل لمملكته أسطولاً بحرياً عظيماً كانت تمخر سفنه البحار إلى جهات قاصية مثل شرق إفريقيا. وقوله: {وما كفر سليمان} جملة معترضة أثار اعتراضها ما أشعر به قوله: {ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} من معنى أنهم كذبوا على سليمان ونسبوه إلى الكفر فهي معترضة بين جملة {واتبعوا} وبين قوله: {وما أنزل على الملكين} إن كان {وما أنزل} معطوفاً على {ما تتلوا} وبين {اتبعوا} وبين {ولقد علموا لَمَن اشتراه} إلخ إن كان {وما أنزل} معطوفاً على السحر، ولك أن تجعله معطوفاً على {واتبعوا} إذا كان المراد من الشياطين أحبار اليهود لأن هذا الحكم حينئذ من جملة أحوال اليهود لأن مآله واتبعوا وكفروا وما كفر سليمان ولكنه قدم نفي كفر سليمان لأنه الأهم تعجيلاً بإثبات نزاهته وعصمته ولأن اعتقاد كفره كان سبب ضلال للذين اتبعوا ما كتبته الشياطين فلا شك أن حكم الأتباع وحكم المتبوعين واحد فكان خبراً عن اليهود كذلك. وقد كان اليهود يعتقدون كفر سليمان في كتبهم فقد جاء في سفر الملوك الأول أن سليمان في زمن شيخوخته أمالت نساؤه المصريات والصيدونيات والعمونيات قلبَه إلى آلهتهن مثل (عشتروت) إله الصيدونيين (ومُولوك) إله العمونيين (الفينيقيين) وبنى لهاته الآلهة هياكل فغضب الله عليه لأن قلبه مال عن إله إسرائيل الذي أوصاه أن لا يتبع آلهة أخرى. وقوله: {يعلمون الناس السحر} حال من ضمير {كفروا} والمقصد منه تشنيع حال كفرهم إذ كان مصحوباً بتعليم السحر على حد قوله: كفرٌ دون كفر فهي حال مؤسسة. والسحر الشعوذة وهي تمويه الحيل بإخفائها تحت حركات وأحوال يظن الرائي أنها هي المؤثرة مع أن المؤثر خفي قال تعالى: {ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون} [الحجر: 14، 15] ولذلك أطلق السحر على الخديعة تقول: سحرت الصبي إذا عللته بشيء، قال لبيد: فإن تسألينا فيم نحن فإننا *** عصافيرُ من هذا الأناممِ المسحّر ثم أطلق على ما علم ظاهره وخفي سببه وهو التمويه والتلبيس وتخييل غير الواقع واقعاً وترويج المحال، تقول العرب: عنز مسحورة إذا عظم ضرعها وقل لبنها وأرض مسحورة لا تنبت، قال أبو عطاء: فوالله ما أدري وإني لصادق *** أداء عراني من حبابك أم سحر أي شيء لا يعرف سببه. والعرب تزعم أن الغيلان سحرة الجن لما تتشكل به من الأشكال وتعرضها للإنسان. والسحر من المعارف القديمة التي ظهرت في منبع المدنية الأولى أعني ببلاد المشرق فإنه ظهر في بلاد الكلدان والبابلين وفي مصر في عصر واحد وذلك في القرن الأربعين قبل المسيح مما يدل على أنها كانت في تينك الأمتين من تعاليم قوم نشأوا قبلهما فقد وجدت آثار مصرية سحرية في عصر العائلة الخامسة من الفراعنة والعائلة السادسة (3951 3703) ق. م. وللعرب في السحر خيال واسع وهو أنهم يزعمون أن السحر يقلب الأعيان ويقلب القلوب ويطوع المسحور للساحر ولذلك كانوا يقولون إن الغول ساحرة الجن ولذلك تتشكل للرائي بأشكال مختلفة. وقالت قريش: لما رأوا معجزات رسول الله: إنه ساحر، قال الله تعالى: {وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر} [القمر: 2] وقال الله تعالى: {ولوفتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون} [الحجر: 14، 15]. وفي حديث البخاري عن عمران بن حصين أن القوم عطشوا في سفر مع رسول الله فطلبوا الماء فوجدوا امرأة على بعير لها مزاداتان من ماء فأتيا بها رسول الله فسقى رسول الله جميع الجيش ثم رد إليها مزادتيها كاملتين فقالت لقومها: فوالله إنه لَأَسْحَرُ من بين هذه وهذه، تعني السماء والأرض. وفي الحديث: " إن من البيان لسحراً " ولم أر ما يدل على أن العرب كانوا يتعاطون السحر فإن السحر مستمد من خصائص الأمور الطبيعية والتركيب ولم يكن للعرب ضلاعة في الأمور اليدوية بل كانت ضلاعتهم فكرية محضة، وكان العرب يزعمون أن أعلم الناس بالسحر اليهود والصابئة وهم أهل بابل، ومساق الآية يدل على شهرة هؤلاء بالسحر عند العرب. وقد اعتقد المسلمون أن اليهود في يثرب سحروهم فلا يولد لهم فلذلك استبشروا لما ولد عبدالله بن الزبير وهو أول مولود للمهاجرين بالمدينة كما في «صحيح البخاري»، ولذلك لم يكثر ذِكْر السحر بين العرب المسلمين إلا بعد أن هاجروا إلى المدينة إذ قد كان فيها اليهود وكانوا يوهمون بأنهم يسحرون الناس. ويداوى من السحر العراف ودواء السحر السلوة وهي خرزات معروفة تحك في الماء ويشرب ماؤها. وورد في التوراة النهي عن السحر فهو معدود من خصال الشرك وقد وصفت التوراة به أهل الأصنام فقد جاء في سفر التثنية في الإصحاح 18 «إذا دخلتَ الأرض التي يعطيك الرب إلهك لا تتعلمْ أن تفعل مثل رجس أولئك الأمم لا يوجد فيك من يَزج ابنَه أو ابنته في النار ولا مَن يَعْرُف عِرَافَة ولا عائف ولا متفائل ولا ساحر ولا من يَرقي رقية ولا من يسأل جانّاً أو تابعة ولا من يستشير الموتى لأن كل من يفعل ذلك مكروه عند الرب». وفي سفر اللاويين الإصحاح 20 «(6) والنفس التي تلتفت إلى الجان وإلى التوابع لتزني وراءهم أَجْعل وجهي ضد تلك النفس وأَقطعُها من شعبها (27) وإذا كان في رجل أو امرأة جانٌّ أو تابعة فإنه يُقتل بالحجارة يرجمونه دمُه عليه». وكانوا يجعلونه أصلاً دينياً لمخاطبة أرواح الموتى وتسخير الشياطين وشفاء الأمراض وقد استفحل أمره في بلد الكلدان وخلطوه بعلوم النجوم وعلم الطب. وأرجع المصريون المعارف السحرية إلى جملة العلوم الرياضية التي أفاضها عليهم «طوط» الذي يزعمون أنه إدريس وهو هرمس عند اليونان. وقد استخدم الكلدان والمصريون فيه أسراراً من العلوم الطبيعية والفلسفية والروحية قصداً لإخراج الأشياء في أبهر مظاهرها حتى تكون فاتنة أو خادعة وظاهرة، كخوارق عادات، إلا أنه شاع عند عامتهم وبَعُدَ ضَلالهم عن المقصد العلمي منه فصار عبارة عن التمويه والتضليل وإخراج الباطل في صورة الحق، أو القبيح في صورة حسنة أو المضر في صورة النافع. وقد صار عند الكلدان والمصريين خاصية في يد الكهنة وهم يومئذ أهل العلم من القوم الذين يجمعون في ذواتهم الرئاسة الدينية والعلمية فاتخذوا قواعد العلوم الرياضية والفلسفية والأخلاقية لتسخير العامة إليهم وإخضاعهم بما يظهرونه من المقدرة على علاج الأمراض والاطلاع على الضمائر بواسطة الفراسة والتأثير بالعين وبالمكائد. وقد نقلته الأمم عن هاتين الأمتين وأكثر ما نقلوه عن الكلدانيين فاقتبسه منهم السريان (الأشوريون) واليهود والعرب وسائر الأمم المتدينة والفرس واليونان والرومان. وأصول السحر ثلاثة: الأول: زجر النفوس بمقدمات توهيمية وإرهابية بما يعتاده الساحر من التأثير النفساني في نفسه ومن الضعف في نفس المسحور ومن سوابقَ شاهدَها المسحور واعتقدها فإذا توجه إليه الساحر سُخر له وإلى هذا الأصل الإشارة بقوله تعالى في ذكر سحرة فرعون {سَحَرُوا أَعْيُنَ الناسسِ واسْتَرْهَبُوهُمْ} [الأعراف: 116]. الثاني: استخدام مؤثرات من خصائص الأجسام من الحيوان والمعدن وهذا يرجع إلى خصائص طبيعية كخاصية الزئبق ومن ذلك العقاقير المؤثرة في العقول صلاحاً أو فساداً والمفترة للعزائم والمخدرات والمرقدات على تفاوت تأثيرها، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى في سحرة فرعون: {إنَّما صنعوا كيدُ ساحر} [طه: 69]. الثالث: الشعوذة واستخدام خفايا الحركة والسرعة والتموج حتى يخيل الجماد متحركاً وإليه الإشارة بقوله تعالى: {يُخَيَّل إليه من سحرهم أنها تسعى} [طه: 66]. هذه أصول السحر بالاستقراء وقد قسمها الفخر في «التفسير» إلى ثمانية أقسام لا تَعْدُو هذه الأصول الثلاثة وفي بعضها تداخل. ولعلماء الأفرنج تقسيم آخر ليس فيه كبير جدوى. وهذه الأصول الثلاثة كلها أعمال مباشرة للمسحور ومتصلة به ولها تأثير عليه بمقدار قابلية نفسه الضعيفة وهو لا يتفطن لها، ومجموعها هو الذي أشارت إليه الآية، وهو الذي لا خلاف في إثباته على الجملة دون تفصيل، وما عداها من الأوهام والمزاعم هو شيء لا أثر له وذلك كل عمل لا مباشرة له بذات من يراد سحره ويكون غائباً عنه فيدعي أنه يؤثر فيه، وهذا مثل رسم أشكال يعبر عنها بالطلاسم، أو عقد خيوط والنفث عليها برقيات معينة تتضمن الاستنجاد بالكواكب أو بأسماء الشياطين والجن وآلهة الأقدمين، وكذا كتابة اسم المسحور في أشكال، أو وضع صورته أو بعض ثيابه وعلائقه وتوجيه كلام إليها بزعم أنه يؤثر ذلك في حقيقة ذات المسحور، أو يستعملون إشارات خاصة نحو جهته أونحو بلده وهوما يسمونه بالأرصاد وذكر أبو بكر ابن العربي في «القبس» أن قريشاً لما أشار النبيء صلى الله عليه وسلم بأصبعه في التشهد قالوا: هذا محمد يسحر الناس، أو جمع أجزاء معينة وضم بعضها إلى بعض مع نية أن ذلك الرسم أو الجمع لتأثير شخص معين بضر أو خير أو محبة أو بغضة أو مرض أو سلامة، ولا سيما إذا قرن باسم المسحور وصورته أو بطالع ميلاده، فذلك كله من التوهمات وليس على تأثيرها دليل من العقل ولامن الطبع ولا ما يثبته من الشرع، وقد انحصرت أدلة إثبات الحقائق في هذه الأدلة، ومن العجائب أن الفخر في «التفسير» حاول إثباته بما ليس بمقنع. وقد تمسك جماعة لإثبات تأثير هذا النوع من السحر بما روي في «الصحيحين» عن قول عائشة أن لبيد بن الأعصم سحر النبيء صلى الله عليه وسلم ورؤيا النبيء صلى الله عليه وسلم أن ملكين أخبراه بذلك السحر، وفي النسائي عن زيد بن أرقم مثله مختصراً، وينبغي التثبت في عباراته ثم في تأويله، ولا شك أن لبيداً حاول أن يسحر النبيء صلى الله عليه وسلم فقد كان اليهود سحرة في المدينة وأن الله أطلع رسوله على ما فعله لبيد لتكون معجزة للنبيء صلى الله عليه وسلم في إبطال سحر لبيد وليعلم اليهود أنه نبيء لا تلحقه أضرارهم وكما لم يؤثر سحر السحرة على موسى كذلك لم يؤثر سحر لبيد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما عرض للنبيء صلى الله عليه وسلم عارض جسدي شفاه الله منه فصادف أن كان مقارناً لما عمله لبيد بن الأعصم من محاولة سحره وكانت رؤيا النبيء صلى الله عليه وسلم إنباء من الله له بما صنع لبيد، والعبارة عن صورة تلك الرؤيا كانت مجملة فإن الرأي رموز ولم يرد في الخبر تعبير ما اشتملت عليه فلا تكون أصلاً لتفصيل القصة. ثم إن لتأثير هاته الأسباب أو الأصول الثلاثة شروطاً وأحوالاً بعضها في ذات الساحر وبعضها في ذات المسحور، فيلزم في الساحر أن يكون مفرط الذكاء منقطعاً لتجديد المحاولات السحرية جسوراً قوى الإرادة كتوماً للسر قليل الاضطراب للحوادث سالم البنية مرتاض الفكر خفي الكيد والحيلة، ولذلك كان غالب السحرة رجالاً ولكن كان الحبشة يجعلون السواحر نساء وكذلك كان الغالب في الفرس والعرب قال تعالى: {ومن شر النفاثات في العقد} [الفلق: 4] فجاء بجمع الإناث وكانت الجاهلية تقول إن الغيلان عجائز من الجن ساحرات فلذلك تستطيع التشكل بأشكال مختلفة، وكان معلمو السحر يمتحنون صلاحية تلامذتهم لهذا العلم بتعريضهم للمخاوف وأمرهم بارتكاب المشاق تجربة لمقدار عزائمهم وطاعتهم. وأما ما يلزم في المسحور فخور العقل، وضعف العزيمة، ولطاقة البنية، وجهالة العقل، ولذلك كان أكثر الناس قابلية له النساء والصبيان والعامة ومن يتعجب في كل شيء. ولذلك كان من أصول السحر إلقاء أقوال كاذبة على المسحور لاختبار مقدار عقله في التصديق بالأشياء الواهية والثقة بالساحر، قال تعالى: {ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إنْ هذا إلا سحر مبين} [هود: 7] فجعلوا ذلك القول الغريب سحراً. ثم تحف بالسحر أعمال، القصد منها التمويه وهذه الأعمال أنواع: نوع: الغرض منه تقوية اعتقاد الساحر في نجاح عمله لتقوى عزيمته فيشتد تأثيره على النفوس وهذا مثل تلقين معلمي هذا الفن تلامذتهم عبادة كواكب ومناجاتها لاستخدام أرواحها والاستنجاد بتلك الأرواح على استخدام الجن والقوى المتعاصية ليعتقد المتعلم أن ذلك سبب نجاح عمله فيقدم عليه بعزم، وفي ذلك تأثير نفساني عجيب ولذلك يسمون تلك الأقوال والمناجاة عزائم جمع عزيمة ويقولون فلان يعزِّم إذا كان يسحر، ثم هو إذا استكمل المعرفة قد يتفطن لقلة جدوى تلك العزائم وقد لا يتفطن وعلى كلتا الحالتين فمعلموه لا يتعرضون له في نهاية التعليم بالتنبيه على فساد ذلك لئلا يدخلوا عليه الشكوك في مقدرته، فلذلك بقيت تلك الأوهام يتلقاها الأخلاف عن أسلافهم، ومن هذا النوع ضروب هي في الأصل تجارب لمقدار طاعة المتعلم لمعلمه بقيت متلقاة عندهم عن غير بصيرة مثل ارتكاب الخبائث وإهانة الصالحات والأمور المقدسةِ إيهاماً بأنها تُبلِّغ إلى مرضاة الشياطين وتسخيرها، وذلك في الواقع اختبار لمقدار خضوع المتعلم، لأن أكبر شيء على النفس نبذ أعز الأشياء وهو الدين، ولأن السحرة ليسوا من المليين فهم يبلغون بمريديهم إلى مبالغهم السافلة، وقد سمعنا أن كثيراً ممن يتعاطون السحر في المسلمين يزعمون أنهم لا يتأتى لهم نجاح إلا بعد أن يلطخوا أيديهم بالنجاسات أونحو من هذا الضلال. ونوع: الغرض منه إخفاء الأسباب الحقيقية لتمويهاتهم حتى لا يطلعَ الناس على كنهها، فيستندون في تعليل أعمالهم إلى أسباب كاذبة كندائهم بأسماء سموها لا مسميات لها ووضعهم أشكالاً على الورق أو في الجدران يزعمون أن لها خصائص التأثير، واستنادهم لطوالع كواكب في أوقات معينة لا سيما القمر، ومن هذا تظاهرهم للناس بمظهر الزهد والهمة. ونوع: يستعان به على نفوذ السحر وهو التجسس والتطلع على خفايا الأشياء وأسرار الناس بواسطة السعي بالنميمة وإلقاء العداوات بين الأقارب والأصحاب والأزواج حتى يُفْشِيَ كل منهم سر الآخر فيتخذ الساحر تلك الأسرار وسيلة يُلقى بها الرعب في قلوب أصحابها بإظهار أنه يعلم الغيب والضمائرَ، ثم هو يأمر أولئك الذين أرهبهم ويستخدمهم بما يشاء فيطيعونه فيأمر المرأة بمغاضبة زوجها وطلب فراقه ويأمر الزوج بطلاق زوجته وهكذا، وفي هذا القسم تظهر مقدرة الساحر الفكرية وبه تكثر أضراره وأخطاره على الناس وجرأته على ارتكاب المرعبات والمطوِّعات باستئصال الأموال بالسرقة يسرقها من لا يتهمه المسروق، ومنه أنه يفعل ذلك من خاصته وأبنائه وزوجه الذين يستهويهم السحرة ويسخرونهم للإخلاص لهم، وينتهي فعل السحرة في هذا إلى حد إزهاق النفوس التي يشعرون بأنها تفطنت لخديعتهم أو التي تعاصت عن امتثال أوامرهم يُغرون بها من هي آمن الناس منه، ثم استطلاع ضمائر الناس بتقريرات خفية وأسئلة تدريجية يوهمه بها أنه يسأله عنها ليعلمه بمستقبله. ونوع: يُجعل اختباراً لمقدار مراتب أذهان الناس في قابلية سحره وذلك بوضع أشياء في الأطعمة خيفة الظهور ليرى هل يتفطن لها من وضَعها، وبإبراز خيالات أو أشباح يوهم بها الناظر أنها جن أو شياطين أو أرواح، وماهي إلا أشكال مموهة أو أعوان من أعوانه متنكرة، لينظر هل يقتنع رائِيها بما أخبره الساحر عنها أم يتطلب كشف حقيقتها أو استقصاء أثرها. فكان السحر قرين خباثة نفس، وفسادِ دين، وشرِّ عمل، وإرعاببٍ وتهويللٍ على الناس، من أجل ذلك ما فتئت الأديان الحقة تحذر الناس منه وتعد الاشتغال به مروقاً عن طاعة الله تعالى لأنه مبني على اعتقاد تأثير الآلهة والجِن المنسوبين إلى الآلهة في عقائد الأقدمين، وقد حذر موسى قومه من السحرِ وأهله ففي سفر التثنية الإصحاح 18 أن مما خاطب به موسى عليه السلام قومه: «متى دخلتَ الأرضَ التي يعطيك الربُ إلهك لا تتعلم أن تفعل مثل رجس أولئك الأمم لا يوجد فيك من يجيز ابنه أو ابنته في النار ولا من يَعْرُف عِرَافة ولا عائفٌ ولا متفائلٌ ولا ساحرٌ ولا من يَرقى رُقية ولا من يسأل جاناً أو تابعة ولا من يستثير الموتى». وجعلت التوراة جزاء السحرة القتل ففي سفر اللاويين الإصحاحين 20 27 «وإذا كان في رجل أو امرأة جان أو تابعة فإنه يقتل». وذكروا عن مالك أنه قال: الأسماء التي يكتبها السحرة في التمائم أسماء أصنام. وقد حذر الإسلام من عمل السحر وذمه في مواضع وليس ذلك بمقتضى إثبات حقيقة وجودية للسحر على الإطلاق ولكنه تحذير من فساد العقائد وخلع قيود الديانة ومن سخيف الأخلاق. وقد اختلف علماء الإسلام في إثبات حقيقة السحر وإنكارها وهو اختلاف في الأحوال فيما أراه فكل فريق نظر إلى صنف من أصناف ما يُدعَى بالسحر. وحكى عياض في «إكمال المعلم» أن جمهور أهل السنة ذهبوا إلى إثبات حقيقته. قلت وليس في كلامهم وصف كيفية السحر الذي أثبتوا حقيقته فإنما أثبتوه على الجملة. وذهب عامة المعتزلة إلى أن السحر لا حقيقة له وإنما هو تمويه وتخييل وأنه ضرب من الخفة والشعوذة ووافقهم على ذلك بعض أهل السنة كما اقتضته حكاية عياض في «الإكمال»، قلت وممن سُمِّي منهم أبو إسحاق الاسترابادي من الشافعية. والمسألة بحذافرها من مسائل الفروع الفقهية تدخل في عقاب المرتدين والقاتلين والمتحيلين على الأموال، ولا تدخل في أصول الدين. وهو وإن أنكره الملاحدة لا يقتضى أن يكون إنكاره إلحاداً. وهذه الآية غير صريحة. وأما الحديث فقد علمتَه آنفاً. وشدد الفقهاء العقوبة في تعاطيه. قال مالك: يقتل الساحر ولا يستتاب إن كان مسلماً وإن كان ذمياً لا يقتل بل يؤدب إلا إذا أدخل بسحره أضراراً على مسلم فإنه يقتل لأنه يكون ناقضاً للعهد لأن من جملة العهد أن لا يتعرضوا للمسلمين بالأذى قال الباجي في «المنتقي» رأى مالك أن السحر كفر وشرك ودليلٌ عليه وأنه لما كان يستتر صاحبه بفعله فهو كالزندقة لأجل إظهار الإسلام وإبطان الكفر ولذلك قال ابن عبد الحكم وابن المواز وأصبغ هو كالزنديق إن أسر السحر لا يستتاب وإن أظهره استتيب وهو تفسير لقول مالك لا خلافٌ له قال الباجي فلا يقتل حتى يثبت أن ما يفعله من السحر هو الذي وصفه الله بأنه كفر قال أصبغ يَكشف ذلك من يعرف حقيقته ويثبت ذلك عند الإمام.
وفي «الكافي» لابن عبد البر إذا عمل السحر لأجل القتل وقتَل به قُتل وإن لم يكن كفراً، وقد أدخل مالك في «الموطأ» السحر في باب الغيلة، فقال ابن العربي في «القبس» وجه ذلك أن المسحور لا يَعلم بعمل السحر حتى يقع فيه، قلت لا شك أن السحر الذي جُعل جزاؤه القتل هو ما كان كفراً صريحاً مع الاستتار به أو حصل به إهلاك النفوس وذلك أن الساحر كان يَعِد من يأتيه للسحر بأن فلاناً يموت الليلة أو غداً أو يصيبه جنون ثم يتحيل في إيصال سموم خفية من العقاقير إلى المسحور تُلقى له في الطعام بواسطة أناس من أهل المسحور فيصبح المسحور ميتاً أو مختل العقل فهذا هو مراد مالك بأن جزاءه القتل أي إن قتل ولذلك قال: لا تقبل توبته وبدون هذا التأويل لا يصح فقه هذه المسألة، فقول مالك في السحر ليس استناداً لدليل معين في خصوص السحر ولكنه من باب تحقيق المناط بتطبيق قواعد التعزير والإضرار، ولبعض فقهاء المذهب في حكاية هذه المسألة إطلاقات عجيب صدورها من أمثالهم، على أن السحر أكثر ما يتطلب لأجل تسخير المحبين محبوبيهم فهو وسيلة في الغالب للزنا أو للانتقام من المحبوب أو الزوج. سئل مالك عمن يعقد الرجال عن النساء وعن الجارية تطعم رجلاً شيئاً فيذهب عقله فقال: لا يقتلان فأما الذي يعقد فيؤدب وأما الجارية فقد أتت أمراً عظيماً قيل أفتقتل فقال: لا قال ابن رشد في «البيان» رأى أن فعلها ليس من السحر اه. وقال أبو حنيفة: يقتل الرجل الساحر ولا يستتاب وأما المرأة فتحبس حتى تتركه فجعل حكمه حكم المرتد ووجَّه أبو يوسف بأنه جمع مع كفره السعي في الأرض بالفساد. وعن الشيخ أبي منصور أن القول بأن السحر كفر على الإطلاق خطأ بل يجب البحث عن حقيقته فإن كان في ذلك رد ما لزم من شرط الإيمان فهو كفر وإلا فلا، وما ليس بكفر وفيه إهلاك النفس ففيه حكم قُطاع الطريق ويستوي فيه الذكور والإناث وتقبل توبته إذا تاب ومن قال: لا تقبل فقد خلط فإن سحرة فرعون قبلت توبتهم اه. وهذا استدلال بشرع من قبلنا. وقال الشافعي يُسأل الساحر عن سحره فإن ظهر منه ما هو كفر فهو كالمرتد يستتاب فإن أصر قتل وإن ظهر منه تجويز تغيير الأشكال لأسباب قراءة تلك الأساطير أو تدخين الأدوية وعَلِم أنه يفعل محرماً فحكمه حكم الجناية فإن اعترف بسحر إنسان وأنَّ سحره يقتل غالباً قُتل قوداً (يعني إذا ثبت أنه مات بسببه) وإن قال: إن سحْري قد يقتل وقد لا يقتل فهو شِبه عمد، وإن كان سِحره لغير القتل فمات منه فهو قتل خطأ تجب الدية فيه مخففة في ماله. ويجب أن يستخلص من اختلافهم ومن متفرق أقوالهم ما يكون فيه بصيرة لإجراء أعمال ما يسمى بالسحر وصاحبُه بالساحر مُجْرَى جنايات أمثاله ومقدار ما أثره من الاعتداء دون مبالغة ولا أوهام، وقد يطلق اسم الساحر اليوم على اللاعب بالشعوذة في الأسمار وذلك من أصناف اللهو فلا ينبغي عد ذلك جناية. يتعين أن (مَا) موصولة وهو معطوف على قوله: {مُلْككِ سليمان} أي وما تتلوا الشياطين عَلى ما أنزل على المَلكين، والمراد بما أنزل ضرب من السحر لكنه سحر يشتمل على كفر عظيم وتعلم الخضوع لغير الله مع الاستخفاف بالدين ومع الإضرار بالناس كما بيناه آنفاً فيكون عطفاً على {ما تتلوا} الذي هو صادق على السحر فعُطف (ما أنزل) عليه لأنه نوع منه أشد مما تتلوه الشياطين الذين كانوا يعلِّمونه الناس مع السحر الموضوع منهم، فالعطف لتغاير الاعتبار أو للتنبيه على أن أصل السحر مقتبس مما ظهر ببابل في زمن هذين المعلِّمَيْن وعطف شيء على نفسه باعتبار تغاير المفهوم والاعتبار وارد في كلامهم كقول الشاعر: (وهو من شواهد النحو): إلى المَلك القَرْم وابننِ الهُمَا *** م ولَيثثِ الكتيبة في المُزْدَحَم وقيل: أريد من السحر أخَفُّ مما وضعته الشياطين على عهد سليمان لأن غاية ما وصف به هذا الذي ظهر ببابل في زمن هذين المعلمين أنه يُفرق بين المرء وزوجه وذلك ليس بكفر وفيه ضعف. والقراءة المتواترة (المَلكين) بفتح لام الملكين وقرأه ابن عباس والضحاك والحَسن وابن أَبْزَى بكسر اللام. وكل هاته الوجوه تقتضي ثبوت نزول شيء على الملكين ببابل وذلك هو الذي يعنيه سياق الآية إذا فَصَّلت كيفية تعليم هذين المعلمين عِلم السحر. فالوجه أن قوله: {وما أنزل} عطف على {مُلك سليمان} فهو معمول لتتلوا الذي هو بمعنى تكذب فيكون المراد عدم صحة هذا الخبر أي ما تكذبه الشياطين على ما أنزل على المَلكين ببابل، أي ينسبون بعض السحر إلى ما أنزل ببابل. قال الفخر وهو اختيار أبي مسلم وأنكر أبو مسلم أن يكون السحر نازلاً على المَلَكين إذ لا يجوز أمر الله به وكيف يتولى الملائكة تعليمه مع أنه كفر أو فسق. وقيل: (ما) نافية معطوفة على (ما كفر سليمان) أي وما كفر سليمان بوضع السحر كما يزعم الذين وضعوه، ولا أنزل السحر على المَلكين ببابل. وتعريف الملكين تعريف الجنس أوهو تعريف العهد بأن يكون الملكان معهودين لدى العارفين بقصة ظهور السحر، وقد قيل إن (هاروت وماروت) بدل من (الشياطين) وإن المراد بالشياطين شيطانان وضعا السحر للناس هما هاروت وماروت، على أنه من إطلاق الجمع على المثنى كقوله: {قلوبكما} [التحريم: 4] وهذا تأويل خطأ إذ يصير قوله: {على الملكين} كلاماً حشواً. وعلى ظاهر هذه الآية إشكال من أربعة وجوه: أحدها كون السحر مُنْزَلاً إن حمل الإنزال على المعروف منه وهو الإنزال من الله، الثاني كون المباشر لذلك ملكين من الملائكة على القراءة المتواترة، الثالث كيف يَجْمَع المَلكان بين قولهما {نحن فتنة} وقولهما {فلا تكفر} فكيف يجتمع قصد الفتنة مع التحذير من الوقوع فيها الرابع كيف حصرا حالهما في الاتصاف بأنهما فتنة فما هي الحكمة في تصديهما لذلك لأنهما إن كانا ملَكين فالإشكال ظاهر وإن كانا ملِكين بكسر اللام فهما قد علما مضرة الكفر بدليل نهيهما عنه وعلِما معنى الفتنة بدليل قولهما {إنما نحن فتنة} فلماذا تورطا في هذه الحالة؟ ودفع هذا الإشكال برمته أن الإنزال هو الإيصال وهو إذا تعدى بعلى دل على إيصال من علو واشتهر ذلك في إيصال العلم من وحي أو إلهام أونحوهما، فالإنزال هنا بمعنى الإلهام وبمعنى الإيداع في العقل أو في الخلقة بأن يكون الملكان قد برعا في هذا السحر وابتكرا منه أساليب لم يسبق لهما تلقيها من معلم شأن العلامة المتصرف في علمه المبتكر لوجوه المسائل وعللها وتصاريفها وفروعها. والظاهر عندي أن ليس المراد بالإنزال إنزال السحر إذ السحر أمر موجود من قبل ولكنه إنزال الأمرِ للملَكين أو إنزال الوحي أو الإلهام للملِكين بأن يتصديا لبث خفايا السحر بين المتعلمين ليبطل انفراد شرمذة بعلمه فيندفع الوجهان الأول والثاني. ثم إن الحكمة من تعميم تعليمه أن السحرة في بابل كانوا اتخذوا السحر وسيلة لتسخير العامة لهم في أبدانهم وعقولهم وأموالهم ثم تطلعوا منه إلى تأسيس عبادة الأصنام والكواكب وزعموا أنهم أي السحرة مترجمون عنهم وناطقون بإرادة الآلهة فحدث فساد عظيم وعمت الضلالة فأراد الله على معتاد حكمته إنقاذ الخلق من ذلك فأرسل أو أوحى أو ألْهم هاروت وماروت أن يكشفا دقائق هذا الفن للناس حتى يشترك الناس كلهم في ذلك فيعلموا أن السحرة ليسوا على ذلك ويرجع الناس إلى صلاح الحال فاندفع الوجه الثالث. وأما الوجه الرابع فستعرف دفعه عند تفسير قوله: {وما يعلمان من أحد} الآية. وفي قراءة ابن عباس والحسن (الملِكين) بكسر اللام وهي قراءة صحيحة المعنى فمعنى ذلك أن ملكين كانا يملكان ببابل قد علما علم السحر، وعلى قراءة فتح اللام فالأظهر في تأويله أنه استعارة وأنهما رجلان صالحان كان حكما مدينة بابل وكانا قد اطلعا على أسرار السحر التي كانت تأتيها السحرة ببابل أو هما وضعا أصله ولم يكن فيه كفر فأدخل عليه الناس الكفر بعد ذلك. وقيل هما ملكان أنزلهما الله تعالى تشكلاً للناس يعلمانهم السحر لكشف أسرار السحرة لأن السحرة كانوا يزعمون أنهم آلهة أو رسل فكانوا يسخرون العامة لهم فأراد الله تكذيبهم ذباً عن مقام النبوءة فأنزل ملكين لذلك. وقد أجيب بأن تعلم السحر في زمن هاروت وماروت جائز على جهة الابتلاء من الله لخلقه فالطائع لا يتعلمه والعاصي يبادر إليه وهو فاسد لمنافاته عموم قوله: {يعلمون الناس} قالوا: كما امتحن الله قوم طالوت بالنهر إلخ ولا يخفى فساد التنظير. وبابل بلد قديم من مدن العالم وأصل الاسم باللغة الكلدانية باب إيلو أي باب الله ويرادفه بالعبرانية باب إيل وهو بلد كائن على ضفتي الفرات بحيث يخترقه الفرات يقرب موضعه من موقع بلد الحلة الآن على بعد أميال من ملتقى الفرات والدجلة. كانت من أعظم مدن العالم القديم بناها أولاً أبناء نوح بعد الطوفان فيما يقال ثم توالى عليها اعتناء أصحاب الحضارة بمواطن العراق في زمن الملك النمروذ في الجيل الثالث من أبناء نوح ولكن ابتداء عظمة بابل كان في حدود سنة 3755 ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وخمسين قبل المسيح فكانت إحدى عواصم أربعة لمملكة الكلدانيين وهي أعظمها وأشهرها ولم تزل همم ملوك الدولتين الكلدانية والأشورية منصرفة إلى تعمير هذا البلد وتنميقه فكان بلد العجائب من الأبنية والبساتين ومنبع المعارف الأسيوية والعجائب السحرية وقد نسبوا إليها قديماً الخمر المعتقة والسحر قال أبو الطيب: سقى الله أيام الصِّبا ما يسرها *** ويفعل فعل البابلي المعتَّق ولاشتهار بابل عند الأمم القديمة بمعارف السحر كما قدمنا في تعريف السحر صح جعل صلة الموصول قوله: {أنزل على الملكين ببابل} إشارة إلى قصة يعلمونها. و (هاروت وماروت) بدل من (الملكين) وهما اسمان كلدانيان دخلهما تغيير التعريف لإجرائهما على خفة الأوزان العربية، والظاهر أن هاروت معرب (هاروكا) وهو اسم القمر عند الكلدانيين وأن ماروت معرب (ما روداخ) وهو اسم المشتري عندهم وكانوا يعدون الكواكب السيارة من المعبودات المقدسة التي هي دون الآلهة لا سيما القمر فإنه أشد الكواكب تأثيراً عندهم في هذا العالم وهو رمز الأنثى، وكذلك المشتري فهو أشرف الكواكب السبعة عندهم ولعله كان رمز الذكر عندهم كما كان بعل عند الكنعانيين الفنيقيين. ومن المعلوم أن إسناد هذا التقديس للكواكب ناشئ عن اعتقادهم أنهم كانوا من الصالحين المقدسين وأنهم بعد موتهم رفعوا للسماء في صورة الكواكب فيكون (هاروكا) و(ماروداخ) قد كانا من قدماء علمائهم وصالحيهم والحاكمين في البلاد وهما اللذان وضعا السحر ولعل هذا وجه التعبير عنهما في القصة بالملكين بفتح اللام. ولأهل القصص هنا قصة خرافية من موضوعات اليهود في خرافاتهم الحديثة اعتاد بعض المفسرين ذكرها منهم ابن عطية والبيضاوي وأشار المحققون مثل البيضاوي والفخر وابن كثير والقرطبي وابن عرفة إلى كذبها وأنها من مرويات كعب الأحبار وقد وهم فيها بعض المتساهلين في الحديث فنسبوا روايتها عن النبيء صلى الله عليه وسلم أو عن بعض الصحابة بأسانيد واهية والعجب للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى كيف أخرجها مسندة للنبيء صلى الله عليه وسلم ولعلها مدسوسة على الإمام أحمد أو أنه غرَّه فيها ظاهر حال رواتها مع أن فيهم موسى بن جبير وهو متكلم فيه واعتذر عبد الحكيم بأن الرواية صحيحة إلا أن المروي راجع إلى أخبار اليهود فهو باطل في نفسه ورواته صادقون فيما رووا وهذا عذر قبيح لأن الرواية أسندت إلى النبيء صلى الله عليه وسلم قال ابن عرفة في «تفسيره» وقدكان الشيوخ يخطئون ابن عطية في هذا الموضع لأجل ذكره القصة ونقل بعضهم عن القرافي أن مالكاً رحمه الله أنكر ذلك في حق هاروت وماروت. وقوله: {ويما يعلمان من أحد} جملة حالية من «هاروت وماروت» و(ما) نافية والتعبير بالمضارع لحكاية الحال إشارة إلى أن قولهما لمتعلمي السحر {إنما نحن فتنة} قول مقارن لوقت التعليم لا متأخر عنه. وقد علم من هذا أنهما كانا معلمين وطوى ذلك للاستغناء عنه بمضمون هاته الجملة فهو من إيجاز الحذف أو هو من لحن الخطاب مفهوم للغاية. وقوله: {إنما نحن فتنة} الفتنة لفظ يجمع معنى مرج واضطراب أحوال أحد وتشتت باله بالخوف والخطر على الأنفس والأموال على غير عدل ولا نظام وقد تخصص وتعمم بحسب ما تضاف إليه أو بحسب المقام يقال فتنة المال وفتنة الدين. ولما كانت هذه الحالة يختلف ثبات الناس فيها بحسب اختلاف رجاحة عقولهم وصبرهم ومقدرتهم على حسن المخارج منها كان من لوازمها الابتلاء والاختبار فكان ذلك من المعاني التي يكنى بالفتنة عنهاكثيراً ولذلك تسامح بعض علماء اللغة ففسر الفتنة بالابتلاء وجرأه على ذلك قول الناس فتنت الذهب أو الفضة إذا أذابهما بالنار لتمييز الردئ من الجيد وهذا الإطلاق إن لم يكن مولداً فإن معنى الاختبار غير منظور إليه في لفظ الفتنة وإنما المنظور إليه ما في الإذابة من الاضطراب والمرج وقد سمى القرآن هاروت وماروت فتنة وقال: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} [البروج: 10] وقال: {لا يفتننكم الشيطان} [الأعراف: 27]. والإخبار عن أنفسهم بأنهم فتنة إخبار بالمصدر للمبالغة وقد أكّدت المبالغة بالحصر الإضافي والمقصد من ذلك أنهما كانا يصرحان أن ليس في علمهما شيء من الخير الإلهي وأنه فتنة محضة ابتلاء من الله لعباده في مقدار تمسكهم بدينهم وإنما كانا فتنة لأن كل من تعلم منهما عمل به. فلا تكفر كما كفر السحرة حين نسبوا التأثيرات للآلهة وقد علمت سرها. وفي هذا ما يضعف أن يكون المقصد من تعليمهما الناس السحر إظهار كذب السحرة الذين نسبوا أنفسهم للألوهية أو النبوءة. والذي يظهر في تفسير هذه الجملة أن قولهما: {إنما نحن فتنة} قصر ادعائي للمبالغة فجعلا كثرة افتتان الناس بالسحر الذي تصديا لتعليمه بمنزلة انحصار أوصافهما في الفتنة ووجه ابتدائهما لمن يعلمانه بهذه الجملة أن يبينا له أن هذا العلم في مبادئه يظهر كأنه فتنة وشر فيوشك أن يكفر متعلمه عند مفاجأة تلك التعاليم إياه إذا كانت نفسه قد توطنت على اعتقاد أن ظهور خوارق العادات علامة على ألوهية من يظهرها، وقولهما: {فلا تكفر} أي لا تعجل باعتقاد ذلك فينا فإنك إذا توغلت في معارف السحر علمت أنها معلولة لعلل من خصائص النفوس أو خصائص الأشياء فالفتنة تحصل لمن يتعلم السحر حين يرى ظواهره وعجائبه على أيدي السحرة ولمن كان في مبدأ التعليم فإذا تحقق في علمه اندفعت الفتنة فذلك معنى قولهما {فلا تكفر} فالكفر هو الفتنة وقولهما {فلا تكفر} بمنزلة فلا تفتتن وقد اندفع الإشكال الرابع المتقدم. تفريع عما دل عليه قوله: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا} المقتضي أن التعليم حاصل فيتعلمون، والضمير في {فيتعلمون} راجع لأحد، الواقع في حيز النفي مدخولاً لمن الاستغراقية في قوله تعالى: {وما يعلمان من أحد} فإنه بمعنى كل أحد فصار مدلوله جمعاً. قوله: {ما يفرقون به بين المرء وزوجه} إشارة إلى جزئي من جزئيات السحر وهو أقصى تأثيراته إذ فيه التفرقة بين طرفي آصرة متينة إذ هي آصرة مودة ورحمة قال تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم: 21] فإن المودة وحدها آصرة عظيمة وهي آصرة الصداقة والأخوة وتفاريعهما، والرحمة وحدها آصرة منها الأبوة والبنوة، فما ظنكم بآصرة جمعت الأمرين وكانت بجعل الله تعالى وما هو بجعل الله فهو في أقصى درجات الإتقان وقد كان يشير إلى هذا المعنى شيخنا الجليل سالم أبو حاجب في قوله تعالى: {وجعل بينكم مودة ورحمة}. وهذا التفريق يكون إما باستعمال مفسدات لعقل أحد الزوجين حتى يبغض زوجه وإما بإلقاء الحيل والتمويهات والنميمة حتى يفرق بينهما. وقوله: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} جملة معترضة. وضمير {هم} عائد إلى (أحد) من قوله: {وما يعلمان من أحد} لوقوعه في سياق النفي فيعم كل أحد من المتعلمين أي وما المتعلمون بضارين بالسحر أحداً. وهذا تنبيه على أن السحر لا تأثير له بذاته وإنما يختلف تأثير حيله باختلاف قابلية المسحور، وتلك القابلية متفاوتة ولها أحوال كثيرة أجملتها الآية بالاستثناء منقوله: {إلا بإذن الله} أي يجعل الله أسباب القابلية لأثر السحر في بعض النفوس فهذا إجمال حسن مناسب لحال المسلمين الموجه إليهم الكلام لأنهم تخلقوا بتعظيم الله تعالى وقدرته وليس المقام مقام تفصيل الأسباب والمؤثرات ولكن المقصود إبطال أن تكون للسحر حالة ذاتة وقواعد غير مموهة، فالباء في قوله: {بإذن الله} للملابسة. وأصل الإذن في اللغة هو إباحة الفعل، واستأذن طلب الإذن في الفعل أو في الدخول للبيت وقد استعمله القرآن مجازاً في معنى التمكين إما بخلق أسباب الفعل الخارقة للعادة نحو قوله: {وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني} [المائدة: 110] وإما باستمرار الأسباب المودعة في الأشياء والقوى كقوله تعالى: {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله} [آل عمران: 166] فقوله: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} أي إلا بما أعد الله في قابل السحر من استعداد لأن يضر به فإن هذا الاستعداد وإمكان التأثر مخلوق في صاحبه فهو بإذن الله ومشيئته كذا قرره الراغب وهو يرجع إلى استعمال مما تستعمل فيه كلمة إذن (ومن هذا القبيل ونظيره لفظة الأمر في قوله تعالى: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [الرعد: 11] أي مما خلق الله من الأشياء التي تلحق أضرارها للناس وقد اشتهر هذا الاستعمال في لسان الشرع حتى صار حقيقة عرفية في معنى المشيئة والإرادة فينبغي أن يلحق بالألفاظ التي فرق المتكلمون بين مدلولاتها وهي الرضا والمحبة والأمر والمشيئة والإرادة). فليس المعنى أن السحر قد يضر وقد لا يضر بل المعنى أنه لا يضر منه إلا ما كان إيصال أشياء ضار بطبعها وقوله: {ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم} يعني ما يضر الناس ضراً آخر غير التفرقة بين المرء وزوجه فضمير (يضرهم) عائد على غيرما عاد عليه ضمير (يتعلمون) والمعنى أن أمور السحر لا يأتي منها إلا الضر أي في الدنيا فالساحر لا يستطيع سحر أحد ليصير ذكياً بعد أن كان بليداً أو ليصير غنياً بعد الفقر وهذا زيادة تنبيه على سخافة عقول المشتغلين به وهو مقصد الآية وبهذا التفسير يكون عطف قوله: {ولا ينفعهم} تأسيساً لا تأكيداً والملاحظ في هذا الضر والنفع هو ما يحصل في الدنيا وأما حالهم في الآخرة فسيفيده قوله: {ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق} وقد أفادت الآية بجمعها بين إثبات الضر ونفي النفع الذي هو ضده مفاد الحصر كأنه قيل ويتعلمون ما ليس إلا ضراً كقول السموءل وعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي: تسيل على حد الظُّبات نفوسنا *** وليس على غير الظُّبات تسيل وعدل عن صيغة القصر لتلك النكتة المتقدمة وهي التنبيه على أنه ضر. وإعادة فعل {يتعلمون} مع حرف العطف لأجل ما وقع من الفصل بالجملة المعترضة. عطف على قوله: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين} أي اتبعوا ذلك كله وهم قد علموا إلخ والضمير لليهود تبعاً لضمير {واتبعوا}، أو الواو للحال أي في حال أنهم تحقق علمهم. واللام في {لقد علموا} يجوز أن تكون لام القسم وهي اللام التي من شأنها أن تدخل على جواب القسم لربطه بالقسم ثم يحذفون القسم كثيراً استغناء لدلالة الجواب عليه دلالة التزامية لأنه لا ينتظم جواب بدون مجاب. ويجوز أن تكون لام الابتداء، وهي لام تفيد تأكيد القسم ويكثر دخولها في صدر الكلام فلذلك قيل لها لام الابتداء والاحتمالان حاصلان في كل كلام صالح للقسم وليس فيه قسم فإن حذف لفظ القسم مشعر في المقام الخطابي بأن المتكلم غير حريص على مزيد التأكيد كما كان ذكر إن وحدها في تأكيد الجملة الاسمية أضعف تأكيداً من الجمع بينها وبين لام الابتداء لأنهما أداتا تأكيد. قال الرضى إن مواقع لام القسم في نظر الجمهور هي كلها لامات الابتداء. والكوفيون لا يثبتون لام الابتداء ويحملون مواقعها على معنى القسم المحذوف والخلاف في هذا متقارب. واللام في قوله: {لمن اشتراه} يجوز كونها لام قسم أيضاً تأكيداً للمعلوم أي علموا تحقيق أنه لا خلاق لمشتري السحر ويجوز كونها لام ابتداء والاشتراء هو اكتساب شيء ببذل غيره فالمعنى أنهم اكتسبوه ببذل إيمانهم المعبر عنه فيما يأتي بقوله أنفسهم. والخلاق الحظ من الخير خاصة. ففي الحديث: " إنما يلبس هذا من لا خلاق له " وقال البعيث بن حريث: ولست وإن قربت يوماً ببائع *** خلاقي ولا ديني ابتغاء التحبب ونفي الخلاق وهو نكرة مع تأكيد النفي بمن الاستغراقية دليل على أن تعاطي هذا السحر جرم كفر أو دونه فلذلك لم يكن لمتعاطيه حظ من الخير في الآخرة وإذا انتفى كل حظ من الخير ثبت الشر كله لأن الراحة من الشر خير وهي حالة الكفاف وقد تمناها الفضلاء أو دونه خشية من الله تعالى. قوله: {ولبئس ما شروا به أنفسهم} عطف على {ولقد علموا} عطف الإنشاء على الخبر و{شروا} بمعنى باعوا بمعنى بذلوا وهو مقابل قوله: {لمن اشتراه} ومعنى بذل النفس هو التسبب لها في الخسار والبوار. وقوله: {لو كانوا يعلمون} مقتض لنفي العلم بطريق لو الامتناعية والعلم المنفي عنهم هنا هو غير العلم المثبت لهم في قوله: {ولقد علموا} إلا أن الذي علموه هو أن مكتسب السحر ماله خلاق في الآخرة والذي جهلوه هنا هو أن السحر شيء مذموم وفيه تجهيل لهم حيث علموا أن صاحبه لا خلاق له ولم يهتدوا إلى أن نفي الخلاق يستلزم الخسران إذ ما بعد الحق إلا الضلال وهذا هو الوجه لأن {لو كانوا يعلمون} ذيل به قوله: {ولبئس ما شروا به أنفسهم} فدل على أنه دليل مفعوله وبذلك يندفع الإشكال عن إثبات العلم ونفيه في معلوم واحد بناءً على أن العلم بأنه لا خلاق لصاحب السحر عين معنى كون السحر مذوماً فكيف يعدون غير عالمين بذمه وقد علمت وجهه وهذا هو الذي تحمل عليه الآية. ولهم في الجواب عن دفع الإشكال وجوه أخرى أحدها ما ذهب إليه صاحب «الكشاف» وتبعه صاحب «المفتاح» من أن المراد من نفي العلم هو أنهم لما كانوا في علمهم كمن لا يعلم بعدم عملهم به نفي العلم عنهم لعدم الاعتداد به أي فيكون ذلك على سبيل التهكم بهم. الثاني أن المراد بالعلم المنفي هو علم كون ما يتعاطونه من جملة السحر المنهي عنه فكأنهم علموا مذمة السحر علماً كلياً ولم يتفطنوا لكون صنيعهم منه كما قالوا إن الفقيه يعلم كبرى القياس والقاضي والمفتي يعلمان صغراه وأن الفقيه كالصيدلاني والقاضي والمفتي كالطبيب وهذا الوجه الذي اخترناه. الثالث أن المراد لو كانوا يعلمون ما يتبعه من العذاب في الآخرة أي فهم ظنوا أن عدم الخلاف لا يستلزم العذاب وهذا قريب من الذي ذكرناه. الرابع أن المراد من العلم المنفي التفكر ومن المثبت العلم الغريزي وهذا وجه بعيد جداً إذ لايمكن أن يكون علمهم بأن من اكتسب السحر لا خلاق له علماً غريزياً فلو قيل العلم التصوري والعلم التصديقي. وفي الجمع بين {لقد علموا} و{لو كانوا يعلمون} طباق عجيب. وهنالك جواب آخر مبني على اختلاف معاد ضمير {علموا} وضمير {لو كانوا يعلمون} فضمير {لقد علموا} راجع إلى الجن الذين يعلمون السحر وضميرا {لو كانوا يعلمون} راجعان إلى الإنس الذين تعلموا السحر وشروا به أنفسهم، قاله فطرب والأخفش وبذلك صار الذين أثبت لهم العلم غير المنفي عنهم.
|